كلمة العدد
الحجُّ مدرسة
ربّانيّة
العبادات
التي شرعها الله تعالى لعباده، كلُّها ترمي أصلاً إلى بناء الإنسان، وصهره في
بوتقة تجعله مرضيًّا لدى ربّه، صالحاً لإعمار الكون، مستحقًّا بفضل الله لجنته.
ولحكمة يعلمها الله تعالى جعل بعضَ العبادات بدنية، وبعضها ماليّة، وبعضها بدنيّة
وماليّة معًا كالحج الذي ينفق فيه العبدُ مالَه ويُجْهِد فيه نفسَه وجسمَه. وبما
أن الحج لا تُؤَدَّى مناسكُه إلاّ في المشاعر المقدسة بمكة المكرمة مهبط الوحي
ومولد الإسلام والوصول إليها لم يكن بإمكان كل مسلم وإنما بإمكان من لديه السعة
الماليّة، فقُيِّدَ أداؤُه باستطاعة الوصول إليها في صريح الآيات القرآنية:
«وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً» (آل
عمران/97). ولم يُفْرَضِ الحجُّ كلَّ يوم أو كلَّ أسبوع أو كلَّ شهر أو كلَّ سنة،
وإنما فُرِضَ على كلِّ مُكَلَّف مسلم
مستطيع إلى مكة المكرمة سبيلاً مرة في العمر حتى لايشق علىه. وذلك رحمةً من
عند الله بعباده.
وبما
أن عبادةَ الحج تُكَلِّف المسلمَ إنفاقَ المال إلى إتعاب نفسه وبذل جسمه خلال
أدائها طوال العشر أيام التي يجوز فيها أداؤها ولايجوز في غيرها، فهي عبادة ذات مغزى خاصّ تمتاز به بشكل ملموس عن
غيرها من العبادات البدنية كالصلاة والصيام أو الماليّة كالزكاة. وقد جعلها الله
عبادةً جليلةَ الشأن تُحْدِث في المسلم تغييرات وانعكاسات تُحَوِّلُه غيرَ
ما كان من قبل، فيصير إنسانًا آخرَ غيرَ عاديّ؛ حيث يُولَدُ ولادةً جديدةً، ويصبح
بريئًا من الذنوب كلّها كيوم ولدته أمّه، ويعود حريًّا بأن يدخله ربُّه بمنه وكرمه
الجنةَ التي وعد بها عباده المتقين. والتقوى هي زاد كل مؤمن مستحق لجنة ربّه، وقد
نصّ كتاب الله أنّها تنشأ عن الصيام «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلىٰ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة/183).
كما لَقَّنَ التَّزَوَّدَ بالتقوى في آية الحجّ: «الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي
الحجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وتَزَوَّدُوا فَإِن خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْألْبَابِ» (البقرة/197).
والحجُّ بجميع مناسكه من طواف وسعي، و وقوف بعرفة،
وإقامة بمنى، ومبيت بالمشعر الحرام، ورمي للجمار، ونحر وحلق وتلبية، وارتداء
لملابس الإحرام، يُعَلِّم درسَ التوحيد: توحيد الله عزّ وجلّ وإفراده
بالعبادة والعبودية: «قُلْ إِنَّ صَلٰوتِي ونُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلهِ رَبِّ الْعٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» (الأنعام/162-163) ويتجلّى ذلك في جميع الأعمال
التي يقوم بها الحاج، والأحوال التي يمرّ بها، والشعائر التي يؤديها، فهي كلها من
أمر الله، ولله، ولأجل رضاه، وابتغاء وجهه. والحقُّ أنّه لاخير في الدنيا بلا
التوحيد. ورسالاتُ الأنبياء والرسل كلهم ركّزت على التوحيد ومحاربة الشرك وتجريد
التوحيد لله تعالى، ولا نصيب في الآخرة لمن لم يَتَبَنَّ التوحيد. والحاجُّ
بحركاته وسكناته كلِّها يعلن التوحيدَ ويصدر عنه ويرجع إليه، إنه يؤكد بتصرفاته
جميعها أنّ الحكم حكم الله، والشرع شرعه، والأمر أمره، وأنه أحقُّ من عُبِدَ، وأكرم
من سُئِلَ، وأجود من أعطى، وخير من ذُكِرَ. إن الحج بكثرة مناسكه وأعماله
وارتباطها بكيفيات خاصّة وأزمنة محدودة يُعَلِّم الحاجّ أنه لا إله إلا الله وحده،
لاشريك له، له الحمد، وله الحكم، وإليه المصير، وأنه هو المشرع، وله الخلق والأمر،
تبارك الله رب العالمين، له المشيئة المطلقة والإرادة النافذة، لا رادّ لقضائه،
ولا مُعَقِّب لحكمه، لا يُسْئَل عما يفعل وهم يُسْئَلُون.
كما
أنّ الحج بجميع ما فيه من أعمال ومناسك يُعَلِّم الحاجَّ الاتّباعَ، ويُجَنِّبه
الابتداعَ: اتباعَ محمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما فَعَلَه في الحج وفي غيره
من العبادات التي أحكامُها كلُّها توقيفية وليست لقياس البشر فيها دخل ما. وقد
صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خذوا عني مناسككم» (مسند أحمد، 3/318؛ ط:
المكتب الإسلامي) فالحاجّ لايُلَبِّي إلاّ بتلبتيه صلى الله عليه وسلم، ولا يشهد
المشاعر إلاّ شهودَه صلى الله عليه وسلم، ولا يذهب إلى منى ولا يقيم بها إلاّ
ذهابَه صلى الله عليه وسلم إليها وإقامتَه بها، ولا يقصر الصلاة إلاّ قصرَه صلى
الله عليه وسلم، ولا يجمع بين الصلاتين إلاّ جمعَه صلى الله عليه وسلم لهما، ولا
يقف بعرفة إلاّ وقوفَه صلى الله عليه وسلم بها ويكثر من دعائه صلى الله عليه وسلم:
«لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل
شيء قدير» ولا يرمي الجمار إلاّ رميَه صلى الله عليه وسلم، ولا ينحر الهدايا إلاّ
نحرَه صلى الله عليه وسلم، ولا يعزم بشيء من المناسك إلاّ بعزيمته صلى الله عليه
وسلم، ولا يترخص بشيء منها إلاّ برخصته صلى الله عليه وسلم، فلا مشروع إلاّ ما
شَرَعَه، ولا محظور إلاّ ما حَظَرَه هو صلى الله عليه وسلم، ولا سنّة إلاّ ما
سنَّه صلى الله عليه وسلم ولا مكروه إلاّ ما كَرِهَه صلى الله عليه وسلم ،
فالوصاية المطلقة على الدين بإذن الله تعالى لرسوله العظيم محمد بن عبد الله صلى
الله عليه وسلم، فالأمرُ أمرُه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا عصمةَ إلاّ له صلى
الله عليه وسلم، ولا نهيَ إلاّ نهيه صلى الله عليه وسلم، فالشقيُّ من حُرِمَ
سعادةَ الاتباع، والسعيدُ من وُفِّق لاتباعه صلى الله عليه وسلم في جميع ما أتاه
وفَعَلَه وأمر به أو توقف عنه أو نهي عنه. وقد صدق ربنا تبارك اسمه وجلّ ثناؤه
وعزّ مجده إذ قال: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا» (الحشر/7) «وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ اَطَاعَ اللهَ وَمَنْ
تَوَلّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» (النساء/80) «وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُه أمرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (الأحزاب/36). «وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ ويَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيْرًا» (النساء/115).
كما يُعَلِّم الحجُّ الحاجَّ الوحدةَ
والتماسكَ والانصهارَ في بوتقة واحدة وهي بوتقة الإسلام، و الانخلاع عن جميع
الألوان القوميّة، والنعرات الجاهلية، والصبغات الحضاريّة، والسمات الثقافيّة،
والهتافات العرقيّة، والعادات الجنسيّة؛ لأن الحج يجعل من الحجيج من جميع الأجناس
والأعراق والجنسيّات والألوان واللغات واللهجات والعادات والحضارات وحدةً متماسكة
متشابكة موحدة؛ حيث يجتمعون في صعيد واحد، ويتحركون تحركاً واحدًا، ويرتدون لباسًا
واحدًا، ويعبدون ربًّا واحدًا، ويُسَبِّحون بحمده، ويُلَبُّون دعوتَه وحدها،
ويستجيبون لأحكامه وحدها، ويتجاورون في المسكن والمبيت والإقامة والترحال، والوقوف
والإفاضة، ويقتسمون شربة الماء ولقمة العيش، ويقفون وقفة واحدة أمام ربهم في صلوات
القصر والجمع، ويعانق المسلم الغربيُّ المسلمَ الشرقيَّ، والأفريقيُّ الآسيويَّ،
والأوربيُّ العربيَّ والعجميَّ، لافضلَ لعربيّ على عجميّ ولا لأسود على أحمر؛ لأن
الإسلام أذاب الفوارقَ كلَّها؛ ليكون المسلمون سواسية كأسنان المشط، فلا تفاضل
بينهم إلاّ بالتقوى والعمل الصالح وقدر الإخلاص والاحتساب لله رب العالمين. إن
الحجّ يُعَلِّم الحجيجَ تناسي جميع الانتماءات الوطنية والنسبية والقوميّة
والقبلية، والوثائق الرسمية، والهويات الشخصيّة، وصهر كلّ العلاقات في علاقة
الإسلام الشاملة الكاملة الباقية الخالدة النافعة حتى في مرحلة ما بعد الموت.
الحجُّ يُعَلِّم الحاجَّ أن قيمته وعظمته إنما هي بمقدار تمسكه بالإسلام، وسعادته
بالتقوى، واعتزازه بالقيم التي رسخها الإسلام والمبادئ التي أرساها الإيمان، وأعلن
عنها القرآن: «يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات/13).
معيارُ
الأكرميّة والأفضليّة عند الله عزّ وجلّ هو التقوى، وإخلاصُ العمل لله، واحتسابَ
الأجر عنده، وابتغاءُ وجهه وحده. وهو المعيار الذي كلما استحضره المسلمون وتحرّكوا
في إطاره وحده في العمل والأمل، عزّوا وارتفعوا وهابهم الجاهليّون كلُّهم في كل
عصر ومصر، وما غاب عنهم هذا المعيارُ الأصيل الدقيق للتفاضل والعظمة والارتفاع
وغلاء القيمة الإنسانيّة إلاّ فقدوا عزّهم وفخارهم، وانهارت هيبتهم، وذهبت ريحهم،
واستأسد عليهم التافهون من أعدائهم؛ حيث إنهم كلما لجؤوا إلى الخربيّة والطبقيّة
والوطنية، والمبادئ الصناعية، والدعوات الأرضيّة، تشتت شملهم، وتمزق جمعهم، وتآكلت
معنوياتهم. إنّ عزّ المسلمين مرهون بالإسلام العزيز القوي الأصيل الذي جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم، فمهما طلبوا العزة بغيره أذلهم الله، وقد أعلنها صارخةً ابنُ
الإسلام البارُّ وحكيمُه المنقطعُ النظير الذي لو كان بعد محمد صلى الله عليه وسلم
نبى لكان هو: أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ما أَحْوَجَ المسلمين اليوم إلى الوحدة والتماسك؛
ليستعيدوا هيبتَهم، ويبنوا مجدَهم، ويستردّوا منصبَ الريادة والسيادة. وبذلك وحده
يدفعون الأعداء عن ديارهم، والذلَّ عن حرماتهم، ويطردون اليهود الخبثاء،
والصليبيين الحاقدين، والمشركين الأشدّ عداوةً للذين آمنوا عن بلادهم؛ لأنهم لم
يهجموا عليها، ولم يوغلوا فيها إلاّ لأنه غابت الوحدة عن صفهم، وتلاشى مفهوم الجسد
الواحد في مجتمعهم. إن الحجَّ بكل شعائره ومناسكه يُجَدِّد في الحاجِّ هذا المعنى
الكريم، وتُذَكِّر شعابُ مكة ووِهادُها، وبطحاؤها وسهلها أن الوحدة إنما تتحقق
بالعقيدة الصحيحة، والإسلام الأصيل، وتوحيد الله، واتّباع سيّدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم واستحضار سيرته في كل من القول والفعل، والتصرف والحركة والسكون.
إنّ سيرته صلى الله عليه وسلم هي الأخرى تُعَلِّم المسلمَ الطريقَ إلى هذه الوحدة
الإيمانية، والأخوة الإسلاميّة؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم صَنَعَ المعجزةَ
الكبرى المُتَمَثِّلَة في صنع التلاحم الوثيق بين العرب الذين كانوا مضربَ المثل
في الفرقة والاختلاف، والتشرذم والشتات، وخوض الحروب الدمويّة عبر سنوات طويلة
لأسباب تافهة ودَوَاعٍ ساقطة، مدفوعين بالعصبيّات القبلية، والمفاخر العشائريّة.
إن الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم بخلقه العظيم، وحلمه العديم النظير، وعقيدة
الإيمان التي غرسها في قلوبهم، وعَمّق جذورها في صدورهم، أذاب العقبات كلَّها
واختصر المسافات البعيدة في زمن أقصر أقرب إلى الخيال، فصاروا إخوة أشقاء يتقاسمون
كل شيء في الحياة، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
المسلمون
الصادرون عن الحج ومناسكه، ومكة المكرمة وشعابها، والمدينة المنورة ورحابها،
والبيت العتيق، ومنى وعرفات، والمزدلفة والمشعر الحرام، وعن معانقة مئات الآلاف من
إخوانهم من شتى الألوان والأعراق، لقادرون على إعادة التجربة وتكرار المحاولة في
تَبَنِّي تلك الوحدة الموحدة المتلاحمة المتشابكة، القائمة على أساس العقيدة
الصحيحة، وصدق العزائم، وحسن النوايا، وشفافيّة النفوس، وخلوها من الغش والخديعة،
وكلّ المعاني الجاهليّة، والأهواء الشيطانية.
الحجُّ
المبرور مزدحمٌ بدروس لا تُحْصَىٰ، والحاجُّ أحوج ما يكون إلى استنباطها
وتأمّلها والعمل بها وترجمتها في واقع حياته وفي المجتمع حوله، وعلى رأسها الوحدة
الإيمانية، والأخوة القائمة على العقيدة، وتوحيد الله، واتباع السنة النبوية،
والسيرة المحمديّة المثالية، التي كلُّها تختصر في نبذ الفرقة، واجتناب الاختلاف،
وتبني الائتلاف والتلاحم، على أساس الإيمان، وتعاليم القرآن. الوحدة التي تمثلت في
كل مناسك الحج وأحكامه طوال هذه الأيام المباركة التي ظلت تتحرك فيه مسيرة الحج
التي تَلاَحَمَ فيها الحجيجُ بعضهُم مع بعض في الشعائر والمشاعر، والمظهر والمخبر،
والشكل والمعنى، وجميع التصرفات والأعمال، التي ظلّوا متقيدين بها، والمتحركين في
إطارها، في لذة إيمانيّة، وكيفيّة تعبّديّة رائعة. الواجبُ أن يعيها الحاجّ بعد
عودته من الحج طوال حياته، ويتذكرها في مواقفها كلها مادام حيًّا، وجَعَلَها
حيَّةً ماشيةً بقدميها، ودافعةً بيديها، ويُوَظِّفها لمصلحة الإسلام، وبناء
المجتمع المسلم المتماسك، وصناعة الأمة وصياغتها في بوتقة الوحدة، التي امتنّ بها
الله تعالى على المسلمين في الوحي الذي أنزله من فوق السبع سماوات، وأمر أمرًا
مؤكدًا بالأخذ بها، والعضّ عليها، وعدم الانسلاخ منها مهما كانت الحال. ومن يتأمل
الصياغة القرآنية والتعبيرَ الربّانيَّ بهذه المناسبة يدرك التأكيدَ الذي أراده
الله تعالى بشأن التمسّك بهذه الوحدة الإيمانية: «يٰأَيُّهَا الَّذِيْنَ
آمَنُوا اتَّقُو اللهَ حَقَّ تُقٰتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَّ لاَ تَفَرَّقُوا
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِٓ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْهَا» (آل عمران/102-103).
الوحدة
الإيمانيّة التي تُبْرِزُها عبادةُ الحجّ بمناسكها كلّها منذ انطلاق مسيرتها حتى
انتهائها كل عام، يجب أن تكون درسًا لايمَّحِي عن ذاكرة أيّ حاجّ، ويجب أن
يَتَّخِذه مهمةً يُطَبِّقُها في المجتمع الإسلامي المترامي الأطراف، الواسع
الأرجاء، الذي يحيط بالعالم كله.. يجب أن يتخذها وظيفةً مُشَرِّفَةً في حياته
المكتوبة له على هذه الأرض، يسعى لها، ويجتهد في سبيلها، ويُجَاهِد من أجلها، ويُتْعِب
نفسَه وجسمَه ويُنْفِق مالَه وما عنده وما هو في وسعه حتى يساهم مساهمةً مستطاعةً
في تنفيذها وبَلْوَرَتِها. لو أنّ كلّ حاجّ حَمَّلَ نفسَه مسؤوليّةَ أداءِ دور
فاعل في القيام بهذه الوظيفة المُشَرِّفَة، لكان المجتمع الإسلامي غيرَ ما هو
اليوم، ولكان مستقبل الأمة مشرقًا في الإطار العظيم الذي أمله المؤمنون المخلصون.
والله على ما يشاء قدير. «والله غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلٰكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(يوسف/21).
(تحريرًا
في الساعة 5
من مساء يوم الخميس 23/ شوال 1432هـ = 22/سبتمبر2011م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية
الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011
م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35